أن تكون شاهدًا لا يكفي | ترجمة

لاجئون من الطنطورة يعبرون الحدود نحو الأردنّ

 

المصدر: Forward.

العنوان الأصلي: In two provocative documentaries from Israel, an argument that bearing witness is insufficient.

ترجمة: علاء سلامة - فُسْحَة. 

 


 

في منتصف الفيلم الوثائقيّ «الطنطورة» (2022)، يعلن المؤرّخ الإسرائيليّ يوآف جلبر شيئًا غريبًا: "لا أثق بالشهود".

يقول جلبر عبارته مع ابتسامة وضحكة، لأنّ الغاية منها أن تصدم المتفرّج. لكن، ربّما لا يجب أن تكون هذه الكلمات مفاجئة؛ فمع أنّ مواعظ كثيرة حدّ الملل قيلت في أهمّيّة الروايات الشخصيّة، إلّا أنّ التاريخ تصنعه خيارات أيّ الشهود يجب أن يُوثَقَ بهم، وأيّ الشهود يجب ألّا يُلتَفَت لهم.

فيلمان وثائقيّان يعرضان في «مهرجان أفلام إسرائيل الآخر»، لا يسألان عن معنى ألّا نستمع إلى الشهود فحسب، بل معنى أن نؤمن بشهاداتهم حقًّا. يستخدم «الطنطورة» شهادات شفويّة من جنود إسرائيليّين من أجل إعادة خلق تدمير قرية الطنطورة الفلسطينيّة عام 1948، وتقديم الدليل على أنّ الجنود الإسرائيليّين ارتكبوا مجزرة هناك. «حرب أفلام: شالال» يسرد تفاصيل اكتشاف باحثة لكنز من الأفلام الوثائقيّة الّتي سجّلتها «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، مخبّأة في أرشيف حكوميّ إسرائيليّ.

يستخدم الفيلمان شهادات حيّة من أجل تفنيد الأساطير المحيطة بخلق دولة إسرائيل، ومحو التاريخ الفلسطينيّ من تاريخ الدولة العامّ. كلاهما يحضّان المتفرّجين على رؤية و، على عكس جلبر، على الوثوق بالشهود أيضًا. لكنّهما يعجزان عن التصريح بما يريدان منّا فعله بعد أن رأينا الشهود وآمنّا بهم.

 

«الطنطورة» واللا تكافؤ بين شهادة الضحيّة وجلّادها

«الطنطورة» فيلم ذكيّ، وحسن الإنتاج، بدأ عرضه في مهرجان «صنداس» للأفلام، وهو يعرض القصّة مثلما تُعرض جريمة قتل تُرِكَت باردة. القضيّة تبدأ في تسعينات القرن العشرين، حينما يبدأ تيدي كاتز، طالب دراسات عليا في «جامعة حيفا» في التحقيق في تدمير قرية الطنطورة الفلسطينيّة عام 1948، أثناء ما يسمّيه الإسرائيليّون بـ ’حرب الاستقلال‘، ويسمّيه الفلسطينيّيون بـ ’النكبة‘.

يُجري كاتز مقابلات مع عدد من الجنود السابقين في لواء «ألكسنداروني»، اللواء الّذي احتلّ الطنطورة، وعددًا من المواطنين الفلسطينيّين الّذين طُرِدُوا من قريتهم. جَمَعَ كاتز الأدلّة القائلة، بما فيها اعترافات الجنود، إنّ اللواء ارتكب مجزرة في الطنطورة بعد أن استسلمت القرية، ودَفَنَ جثث 200 ضحيّة في قبر جماعيّ مخبّأ أسفل مصفّ للسيّارات اليوم.

بعد أن نشرت صحيفة أطروحة كاتز، وسحب عدد من الجنود شهاداتهم، ورفعوا دعوى تشهير بحقّ كاتز، ألغت الجامعة دعمها لكاتز، وأدّت الفضيحة إلى إيقاف مسيرته الأكاديميّة، وحوّلته إلى منبوذ.

من أجل إعادة بناء فاجعة الطنطورة، وتاريخها المعقّد، جَمَعَ مخرج الوثائقيّ ألون شوارتز موادًّا أرشيفيّة، ومصادر أخرى، منها مقابلات جديدة مع جنود من لواء «ألكسندروني»، وعدد من أحفاد أهل الطنطورة، إضافة إلى أطروحة كاتز المسجّلة، ومقابلات مع كاتز نفسه، وهو الّذي ما يزال مصرًّا على ما توصّل إليه.

مع أنّ «الطنطورة» يتعثّر أحيانًا بالتفاصيل اللوجستيّة، إلّا أنّه يتفوّق في سماحه للشهود بشرح أنفسهم، أو السماح لهم بمحاولة فعل ذلك. بينما هم يجلسون في بيوتهم، وأحيانًا، يحيطهم أفراد من عائلاتهم، يتأرجح جنود «ألكسندروني» بين المواجهة المباشرة، وإقرار أنّ المذبحة وقعت، وبين تبريراتهم لها، وحتّى إنكارها تمامًا.

 

ما يفعله النازيّون يفعله الصهاينة

شهاداتهم مدفوعة بما يصفه سوال شوارتز، منتج الوثائقيّ، بحاجتهم إلى ’تقيّؤ الحقيقة‘ في سنوات حياتهم الأخيرة. تُظْهِرُ هذه الشهادات كم هو سهل على العار أن يتحوّل إلى تبريرات مثيرة للغثيان. في أحد المشاهد، يستمع جنديّ إلى شهادة سُجِّلت في التسعينات تروي قصّة إيقاف أحد الجنود لعدد من سكّان الطنطورة في صفّ وإطلاق النار عليهم وقتلهم. يقارن الجنديّ هذا الفعل بأفعال النازيّين، ثمّ يقول إنّ جنود «ألكسندروني»، بما أنّهم لم يكونوا نازيّين، فإنّهم بالطبع لم يكونوا قادرين على ارتكاب هكذا أفعال.

ما لا يناقشه «الطنطورة» هو تركيزه، هو نفسه، على الشهادات الإسرائيليّة أكثر من الفلسطينيّية. في ما يظهر كاتز بمظهر مَنْ يحاول إخراج نفسه من دائرة الضوء في مقابلاته، يقدّمه الفيلم كأنّه المكتشف الأوّل لتاريخ الطنطورة، وكأنّ ما توصّل إليه كان مدفونًا تمامًا لمدّة سنين بين تاريخ الدعوى القضائيّة ضدّه، وصناعة الوثائقيّ.

لكن، بالرغم من أنّ المجزرة في الطنطورة معروفة بشكل أقلّ من مثيلاتها، مثل مذبحتي دير ياسين واللدّ، اللّتان تحوّلتا إلى أساسيّن من أسس النكبة، لم يكن كاتز أوّل، ولا آخر، مَنْ وثّقها. ظهرت إشارات إلى مذبحة الطنطورة في مذكّرات فلسطينيّين عام 1951. وعام 2002، جَمَعَ الباحث الفلسطينيّ مصطفى الوالي شهادات شفهيّة من سكّان الطنطورة الّذين كانوا واضحين تمامًا بخصوص حقيقة المذبحة. من خلال التعامل مع شهادات الجنود على أنّها كشوفات غير متوقّعة، يلمّح الوثائقيّ إلى أنّ الشهادات الفلسطينيّة تستحقّ الاهتمام فقط في حال طابقتها شهادات إسرائيليّة - نفحة من النفاق في فيلم عن أهمّيّة شهود العيان.

 

«حرب أفلام»... سرقة الأرشيف الفلسطينيّ 

كتابة وإخراج كارنيت ماندل، الوثائقيّ «حرب أفلام» فيلم أكثر هدوءً، دون أن يكون أقلّ جذبًا. باحثة تابعة لـ «صناعة الفيلم والتلفزيون الإسرائيليّين»، كانت ماندل تبحث في أرشيفات الجيش الإسرائيليّ عندما عثرت صدفة على عدد من الأفلام المسمّاة «أفلام من غنائم الحرب». بعد البحث في منشأها، اكتشفت الباحثة أنّ هذ الأفلام تمثّل جزءًا من الأرشيف الّذي صنعته «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، الّتي وثّقت الحياة اليوميّة الفلسطينيّة، والّتي بَقِيَتْ مخبّأة دون أن يراها أحد، منذ أن سرقها الجيش الإسرائيليّ خلال اجتياح بيروت عام 1982.

الأفلام الّتي تعرضها ماندل، يعود بعضها إلى زمن الانتداب البريطانيّ، شكل آخر من أشكال الشهادات، وهي هذه المرّة حول مجتمع فلسطينيّ مزدهر ومتماسك: أمّهات شابّات يَحْضُرن صفوفًا حول العناية بالأطفال، فتيات مدارس يمشين ممسكات بأيدي بعضهنّ البعض، سيّارات جميلة وجديدة تسير في شوارع يافا.

بالنسبة إلى صانعي الأفلام والباحثين الفلسطينيّين الّذين تجري ماندل مقابلات معهنّ، يشكّل إخفاء هذه الأفلام ما يسمّونه بـ "تضييع هويّة شعب". وبينما تظلّ ماندل شبه مخفيّة في الفيلم، تلعب دور الراوية، وتركّز وقتها على منهجيّة عملها أكثر من دوافعها، يبدو أنّها ترى في هذه الأفلام فرصة للجمهور اليهوديّ الإسرائيليّ من أجل إعادة النظر في  الرواية التاريخيّة الّتي شكّلت هويّته.

"ما رأيناه في هذه الأفلام حَدَثَ"، تقول ماندل في الفيلم، وهي تصف أهمّيّة الأفلام والصورة في صناعة وعي جيلها التاريخيّ، خاصّة في ما يتعلّق بتاريخ إسرائيل القوميّ. "ما لم نره، لم يحدث".

مع ذلك، لا تستطيع ماندل أبدًا أن تقول بوضوح ما قد يفعل جيلها بهذه المعرفة الموسّعة الجديدة. ولا يستطيع شوارتز في «الطنطورة». في نقطة ما، يقترح إقامة نصب تذكاريّ لأولئك الّذين قُتِلوا في الطنطورة. عندما يزور مكان المذبحة في القرية، يقول فلسطينيّ إسرائيليّ من قرية مجاورة إنّ وجود قبر جماعيّ من مذبحة الطنطورة سرّ مفضوح.

"الكلّ يعرف أنّ ثمّة مقبرة كاملة هنا" يقول لشوارتز. "لا أحد يتعامل مع هذه الحقيقة". وما تقوله تجربة هذا الشاهد، هو أنّ مجرّد المعرفة بالشيء لا تكفي.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.